لم تكن ثورة الثاني من ديسمبر ترفاً أو لحظة غضب؛ بل كانت ضرورة ملحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطن يُدمر وحقوق تُنهب وثوابت تُداس وقيم تُنتهك ومؤسسات تُسلب.. ثورة إنقاذ قرر القيام بها رجال لديهم الإمكانات والقدرة على قضاء ما تبقى لديهم من الحياة مترفي العيش ملوكاً غير متوجين في الداخل أو في الخارج؛ لكنهم قرروا التخلي عن كل هذا من أجل وطنهم، لم يأخذوا ورقة وقلماً ليعددوا عليها مقدار ما سوف يلحقهم من خسائر كحال الكثير؛ بل كانوا يعلمون أن خسارتهم قد تطال حياتهم، دون أن يثنيهم هذا؛ لأنهم باختصار وصلوا إلى قناعة ثابتة بأن الخسارة الحقيقية هي خسارة الرجال كرامتهم وأوطانهم، وما عداهما يمكن تعويضه.
اعتلى علي عبدالله صالح منصة الشرف، وارتص إلى جانبه رجال هم أشجع من أنجبت اليمن، أخذ ميكرفون الكرامة وألقى كلمته التاريخية للشعب اليمني: أيها اليمنيون، لن يُخلّد أحد، وليست إلا حياة واحدة إما نعيشها بعز أو نفارقها بكرامة.
كان لسان حاله يقول: لقد منحتكم كل شيء وهذه آخر ما يمكن لي أن أمنحه لكم: (ثورة.. حرية)، استعيدوا وطنكم لتعيشوا أنتم وأولادكم بكرامة وحرية.. ثوروا لأجل أنفسكم ولأجلهم. أما أنا فلم يتبقَّ لدي من العمر ما أحياه، ولم يتبقَّ لدي من الحياة ما أخشى خسارته.
أخذ بندقيته وقاتل.. انتفض الناس، سقطت المحافظات والمدن، كانت المؤامرة أكبر من بندقيته وأكبر من صرخات الناس، مؤامرة ضد اليمن كله وليست ضده فقط، وكان يعلم هذا؛ لكنه- بشموخ الكبار وعزة الرجال- اختار استكمال معركته ومغادرة الحياة رافعاً جبينه شامخ الهامة... "عشت في دنيا أصول بها وأجول، شفت فيها الضيق وعايشت السعة، لعنة الله على من عاش عيشة ذليلة".
خطوة واحدة ما بين سماوات الكرامة وبين مستنقعات الذل، اختار الموت بكرامة على الحياة في الذل، بدأها ورفاقه الأبطال، وخلفهم وعلى خطاهم يسير شعب بأكمله.
ما زالت بندقية علي عبدالله صالح مرفوعة تقاتل، ولم تُعلَّق ولن تُعلَّق، وثورته مستمرة طالما يمشي على تراب هذا الوطن رجال يتنفسون كرامة.. وغداً يستولد الحق من أضلع المستحيل، هو ثأر الأجيال، وغداً سوف تُردد في كل وادٍ وساحل وجبل ومدينة وقرية: بالروح بالدم نفديك يا يمن. الأوطان لا تموت، والكرامة لا تفنى، والحرية لا تُكتسب؛ بل تُنتزع انتزاعاً، والحياة لا تولد مرتين.