كان يوما أسود حينما إعتقدنا هذه العصابة الرقمية ستخرج الناس من ظلمات التخلف إلى نور الحداثة ومن حضيرة الجهل إلى فضاءات المعرفة.
ومنذ إجتاحت هذه الكائنات الأليفة حياتنا اليومية بذريعة إنتصارها لمظلوميتنا الحضارية والمصائب تنهال على رؤؤسنا ومن تحت أقدامنا ومن بين أيدينا ومن خلفنا.
لم تكتفي هذه المليشيات الناعمة بقطع أرزاقنا ونهب ثرواتنا ومصادرة حرياتنا وإفساد أخلاقنا - بعد أن صارت تراقب كل تحركاتنا وسكناتنا في الشوارع والأسواق والمتاجر والمنازل وصولا إلى غرف نومنا.
ومع الايام تحولت بيوتنا لقمة سائغة لعيشها وثكنة لتحركاتها ومقرا دائم لعملياتها - بل - صرنا نحرم أطفالنا من بعض وجبات الطعام ومصاريف المدرسة لتمويل برامجها وأنشطتها ومخططاتها.
أيها السادة.. نحتاج إلى ثورة تصحيحية مضادة لإصلاح ما أفسدتة الثورة الصناعية والتكنولوجية في حياة البشر- وقبل ذلك لابد من محاكمة عناصر هذه العصابة العنكبوتية كلا بإسمه وصفته وجرمه من خلال هذه الصورة العائلية النادرة.
من اليمين إلى اليسار ترتص على إمتداد غرف المنزل ومداخله مجموعة من الاجهزة الذكية موصولة بعدد كبير من الشواحن والتوصيلات بطريقة تشبه إلى حد كبير غرف العمليات العسكرية في ساحات المعارك - ولكلا من هذه الاجهزه مشكلته " المادية" التي ينتظرمنى تمويل مشروع صيانتها.
فهذا جوال الوالدة يحتاج إلى تغيير البطارية والغلاف من النوع الاصلي "بمبلغ وقدره"، وهذا تليفون الحجة يحتاج إلى عملية طارئة لتحديث برامجه وتطبيقاته على أخر إصدار مع تعبئه باقة نت "بشي وشويات"، وهذا آيباد البنت الصغيره يحتاج إلى تغيير شاشة اللمس والكثير من الصيانه " بشيك مفتوح"، وهذا لابتوب الولد الكبير يحتاج إلى تغيير المودمات والتوصيلات والتيسفيسات والهوفسات " براتب شهر". وما أن ينتهي المشار إليهم اعلاه من تزويد هواتفهم بالطاقة اللازمة حتى ينتشر الجميع في أركان المنزل الاربعو كلا في فلك يسبح وكل حزب بما لديه فرحون.
وإلى أعلى سقف المنزل تنتشر لمبات الاضاءة في كل متر مربع بطريقة تشبة إلى حد ما تلك الخطة الامنية المرافقة لتأمين موكب رسمي مع فارق أنه لا يوجد في قواميس الخطط جندي سهاري أو رجل أمن زيتي أو غازي - غير أن تكلفة هذا الانتشار في حال أخطأ أحدهم في توصيل أحد الاسلاك أو تغيير بعض المفاتيح هو الاستعانة بجهود أحد الاصدقاء المانحين للحصول على قرض ميسر- والواقع أن الماضي بظلمتة ومساوئه أرحم بكثير من نحن علية في عصر أديسون - إذ كان الناس لا يحتاجون في مساءهم سوى " نوارة " او " فانوس " يتسامر الناس حوله جميعا الصغار والكبار وهم يرون فيهما عصر القناعة والمحبة والمرضى بأنوار الزمن الجميل.
ومن داخل المكان الذي تطبخ فيه اهم القرارات العائلية المصيرية ترتكز "الثلاجة" على رأس قائمة المعدات الكهربائية التي أصبحنا نحتاج اليها لتحضير "شربة ماء" كانت لا تحتاج هذه العملية سوى " قربة مشملة " يجري تعبئتها بالماء العادي وتركها عرضة للرياح تبرد حتى الصباح.
وإلى جوارها تلتهب شعلة "الفرن" وقد تم إيقادها بطريقة تشبة إحتفالاتنا بإعياد سبتمبر - كما لو انها تحترق من ذاتها أو انها " تغرف " من ماء جار - وكل ما في الأمر أن هذا التنور يوقد من إسطوانتين غاز يرافقانه على الدوام وكل ما يمكننا التعليق بشأنه هو الحنين إلى شعلة "الطبون المدر" التي لم تكن تحتاج سوى "حزمة حطب" يجري إستيرادها "مجانا " من السهول والجبال.
وعلى هامش الحديث عن ذلك التطور المذهل في هندسة دورات المياة المنزلية يقف خلف أبوابها "غسالة الثياب" بعد عودتها بالسلامة من اجراء بعض الفحوصات الروتينية "المكلفة" وقد أصابت سواعد النساء بمقتل وصل حد العجز عن غسل ملابسنا بطرقة "الصحفة" التقليدية.
وإلى أعلى سقف الحمام تتدلى "سخانة المياة " وقد إرتقت مكانا عليا بخلاف ما كان عليه نظام تسخين المياة فيما مضى من الجلوس فقط على أركان " الموقد " والذي لا يكلف سوى القليل من الحطب والنار والماء.
ولن نضيف تفاصيل أكثر عن كمية و "تكلفة" المنظفات والمطهرات الموجودة في هذا المرفق الحيوي من أجل تصريح الروائح الكريهة.
برأس الديوان الذي أحاول الهروب إليه من هذه الملحمة اليومية المرفقة بالفواتير اليومية والشهرية - يتصدر جهاز التلفزيون المهجور " زوة المجلس " محاولا مواساته بالتنقل بين قائمة محطاته وقنواته عبر جهاز " الريمونت " المشترى حديثا بمناقصة رسمية.
وفي ذروة البحث عما يمكن أن يشبع فضولي للوجبات الاخبارية السريعة - نجد عجب العجاب في هذا الكائن الفضائي الذي تحول إلى ثلاجة موتى تستقبل أعداد كبيرة من ضحايا نشرات الاخبار أو نادي ليلي تتراقص فيه كل الفنانات الساقطات اللاتي لم يخجلن من الظهور على وسائل الإعلام أو حلبة مصارعة يتنافس عليها المستثمرين والرياضيين والرعاة من أجل تحقيق الكثير من الأهداف الخاصة بكلا منهم أو مول تجاري يروج فيه التجار لآخر صيحات الموضة والازياء ومشروبات الطاقه وبعض الأفكار المتطرفه والمنحرفه على حد سواء.
أيها السادة.. أفكر اكثر من مرة بترك المنزل لهذه العصابة الآلية ولا أغار على عائلتي من وجودها بين هذه العصابة وقد أصبحوا من "أهل البيت" منذ سنوات ما بعد الغزو الفكري والتغريب الثقافي. وكل ما أحتاج إليه للعزوف عن هذا القرار الذي أثقل كاهلي كما هو حال الكثير من ضحايا عولمة القرن الواحد والعشرين هو الإستغراق بأحلام العودة إلى ذلك الزمن الجميل والضيف الخفيف الذي يثقل حياة أجدادنا بمطالب هذه العصابة الرقمية التي لا تنتهي.
هيههههههههات منا الذلة..
- من حائط الكاتب على فيسبوك