في قطاع غزة...
ثمة طفل يتيم لم يذهب إلى المدرسة مبكرا- وأنى له أن يكتب واجباته المدرسية وقد إستيقظ ذات يوم متأخرا على وقع أشلاء حقيبته المدرسية التي مزقتها ضربات طيران الاحتلال خلال الغارات التي منزله وأفراد عائلته - وهي في طريقها إلى إستهداف أكبر قدرا ممكن من المدارس التي كانت قد تحولت إلى أماكن للايواء والنزوح القسري مع خروج المنظومة التعليمية تماما عن الخدمة وتعليق الدراسة في القطاع إلى أجل غير مسمى.
في قطاع غزة...
ثمة طفل مشرد لم يأكل وجبة طعام واحدة - وأنى له أن يطلب المزيد من خبز المعاناة وقد إستهدف الإحتلال الصهيوني رغيف عيشه الذي طالته أيضا أيادي الحصار والتجويع المفروض عليه من إخوانه العرب منذ السابع من أكتوبر - ليس هذا وحسب- بل إن مطبخ عائلته الميداني في مخيمات اللاجئين قد أغرقته السيول ومياة الصرف الصحي فأصبح قاب قوسين من " المجاعة " أو أدنى من " المرض " - وكل ذلك متوقف على مخزون الصبر على تحمل الجوع والذي يدخره هذا الطفل لما تبقى من أيام معاناته الانسانية.
في قطاع غزة...
ثمة طفل شاحب لم يشرب ما يكفي جسده لحاجته إلى الماء - وأنى له أن يرتشف مرارة الايام المتعطشة للسلام - وقد أجهز العدو على فرص الحياة في طول القطاع وعرضه، وعلى هذا الطفل أن يقطع في اليوم الواحد بضعة كيلومترات للحصول على جالون من الماء يمكن أن يسعف عائلته في تحضير كأس من الشاي الساخن لا أقل ولا اكثر- واذا ما تعذر الحصول على هذا الجالون من محطات المياة المكتضه بالعطشى أو حمامات مخيمات الاونوروا قد يتطلب الأمر الاستعانة بمياة الصرف الصحي!!!
في قطاع غزة...
ثمة طفل يرتجف من البرد لم يرتدي ملابسه القطنية الشتويه - وأنى له أن يصنع ما يستر عورات هذا النظام العالمي الجديد - وقد جرده الإحتلال من كل حقوقه وحاجياته التي تركتها عائلته كرها في منزلهم المدمر كذكرى لعل الذكرى تنفع المؤمنين.- وفي منزله الجديد المتواضع في معبر رفح يفترش هذا الطفل المنهك بالترحال حصير الحدود المصرية الفلسطينية الشائكة ولا شيء يستر خيمة عائلته المثقوبه في هذا المكان سوى إلتماس دف الدعاء من رب العباد.
في قطاع غزة...
ثمة طفل شهيد لم يحتفل بعيد ميلاده الأول في مسقط مبعثه يوم الحساب - وأنى له أن يشعل الشموع في مكان تحتويه الدموع -لاسيما وقد فرض الاحتلال طقوس الحزن ومراسم العزاء على كل شبر محروق في هذه الجغرافيا - وفي مقصورة أحد المشافي بقطاع غزه ترتفع أصوات البكاء وتدوي صفارات العويل من حناجر نساء وجدن أطفالهن جثث هامدة لا يسكنها روح سوى أن هؤلاء الشهداء الصغار قد خدج في الحضانات أو قتلى وجرحى مبتوري الاعضاء والأطراف.
في قطاع غزة...
ثمة طفل تبدو عليه معالم الخوف والرعب لم يلعب مع أصدقاءه في فناء منزله- وأنى له أن يسلم براءته لهذه الرغبة الكمالية - وقد كان شاهد عيان على الكثير من رفاقه الأطفال الذين لقوا مصارعهم على يد قوات الاحتلال وهم إذ يعبثون بحقوق طفولتهم للعب في الشوارع - وتحت أنقاض ذلك المكان الذي كان مخصص قبل السابع من أكتوبر لمثل هكذا أغراض ترفيهية وتسلية - يأخذ هذا الطفل على عاتقه مسؤؤلية أن يرسم الابتسامة في وجه عائلته حين يعود إليها ظافرا" بعلبة فول " كان قد حصل عليها في طابور المساعدات الغذائية.
في قطاع غزة...
ثمة طفل معزول عن العالم لم يشاهد قنوات التلفزيون - وأنى له أن يختار برامج الاطفال المفضلة أو أن يعرف ماذا يدور حوله - وقد إنقطع إتصاله بالعصر الذي يعيش فيه منذ 118 يوم لكن هذا المسكين لا يعلم بأن صورته ويومياته قد أصبحت موضوعا للحدث الإعلامي اليوم - وما حوله عبارة عن سديم جغرافي معتم لا وجود فيه لمظاهر الحياة وأدواتها من الكهرباء والاتصالات والإنترنت والمواصلات والماء والدواء وحتى الهواء الذي لم يعد متنفسا للحديث عن إخفاق محمكة العدل في إستصدار قرار دولي يدين إسرائيل على جرائمها التي ترتكبها في قطاع غزه
في قطاع غزة...
ثمة طفل متمرد على أعراف الطفولة لم يستمع إلى حكاية الجدة قبل أن ينام - وأنى له أن يقبل بالتطبيع مع فوازير الماضي - وقد تحولت أيامه ولياليه إلى أمسيات مرعبة لم تتوقف خلالها أصوات الانفجارات والتدمير والتنكيل لحظة واحدة - كما لو أنه يريد أن يروي لابناءنا اليوم حكاية الطفل العربي الفلسطيني الذي أصبح خائفا من حاضر طفولته على مستقبل قضيته التي يرادلها ان تكون موضوعا لشيخوخة نضال الشعوب من اجلال السلام وإحقاق والانتصار لحقوق الإنسان الضائعة في أدراج النظام العالمي الجديد.
إنها حكاية مليون طفل عربي ينتظر عبثا بصيص أمل بإمكانية وفاء الأمم المتحدة بإلتزاماتها ووعودها المتكررة بتوفير الحماية اللازمة لأطفال غزه من مخططات الابادة الجماعية والتهجير القسري - بل هي تفاصيل الطفولة المهدورة التي يعيش واقعها هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا أبطالا للعالم في الصمود والشموخ والارادة والاصرار على الحياة رغم محاولات التدمير الممنهج والقتل المتعمد التي أسقطت مزاعم المجتمع الدولي برغبته لإحلال السلام والانتصار لحقوق الإنسان.
- من حائط الكاتب في فيسبوك