كالحُلم عاش، وكالحُلم رحل
ذلك "علي صلاح الصيادي" الابن والجار والفارس والطبيب الذي وصلني نبأ وفاته عقب إفطار يوم السادس والعشرين من رمضان الحالي، أرسلت هاتفي متصلًا بوالده العزيز الاستاذ صلاح، ولم يحط خبرًا برحيل ابنه البكر، عاودت الاتصال به بعد نصف ساعة اتلمس منه نبأ، وكان يمضي إلى حيث سكنت روح ابنه الحبيب، جُعِلت ألوذ بكل الكذبات الصغيرة، فسألني حازمًا: ماذا لديك؟، ولم أحر جوابًا، قال لي أنه في طريقه إلى مستشفى الفيوم للإطمئنان على حبيبنا عليّ من حادث مرور، كنت بين الشك واليقين حائرًا من خبر الوفاة الفاجعة، حتى جائتني رسالة منه، تقول: الله يرحمه.
اتصلت به مرة أخرى، انفجرت باكيًا، بكينا معًا، وسألته في اختناق العبارات: ماذا حدث؟ كيف؟ ورددنا سويًا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
* علي صلاح الصيادي، ذو الـ ٢٢ ربيعًا، الباسم الذي لا يغضب، والفارس العاشق للخيل، امتطاه كأنه جزء منه، وسافر على سرجه إلى كل الأمكنة، طار به كالريح، ليثبت أن عصر الفرسان لم ينتهِ.
ثم، ترجل الفارس عن صهوة جواده، وعن الحياة التي قضاها بعيدًا من وطنه، وقد كُنّا معًا عائلة واحدة، لا يفصلنا سوى جدار واحد، عرفته في طفولته، وصباه، وفي مقتبل العُمر الذي ارتقى منه سريعًا نحو جنة الله وفردوسه، كان رفيق أولادي، حاضرًا على الدوام في منزلي، كما كان أولادي رفاقه في دارهم، زياراتنا العائلية لا تنقطع، وجلوسنا إلى بعضنا كل يوم، نأكل سويًا، ونضحك، ونسافر معًا، مثل عائلة كبيرها العم صلاح الصيادي، وهكذا كُنت أدعوه، فيتبسّم، ويعترض ابنه عليّ مُستنكرًا: أبي ما يزال صغيرًا !، ونضحك.
طيف الرحيل يغزوني، أفكر في غيابه المؤلم، في أمه التي كانت تذود عن عيالها بحرص عميم، ولأجلهم تنشب المشاحنات مع سُكان المبنى الذي جمعنا لسنوات طويلة، أتذكر أعياد الميلاد، وعليّ يتسلق سُلم الجيران لترتيب زينة الميلاد في غُرف أطفالنا، دأبه كالنحل يدور ويجهز ويبني تفاصيل الفرح في وجوهنا، ثم يستدعينا إليه لنقطع كيكة الحفل، ونطفئ شموع الفرح، ولم نكن نعلم أن روحه ستنطفئ فجأة، وتفجعنا جميعًا، نساءً ورجالًا، أطفالًا وكبارًا.
في حكومة الأطفال، كانوا معًا، هو الوزير ابن الوزير، وابني نائبه، يمضيان سويًا إلى اجتماعاتهم البريئة، وفي أحلامهم استعادة دولة كانوا بعيدين عنها، وكل شيء يشرحونه بحماس بريء.
ما يزال نبأ وفاته المفاجئ قاتلًا ليّ، أتذكره كل لحظة، في أدبه، ونبله، وطيبته، ومحبته، وسعادته الغامرة التي جعلت حياتنا كلنا مليئة بروح وثابة كبيرة كالكبار، كان بمثابة ابني، واخوته كذلك، وهم اليوم أكثر حزنًا لفراق عصيب أبكانا حد النحيب والنشيج المتواصلين.
لا أملك لك يا عليّ سوى حروفي، أنعيك مرتعشًا وأصابعي عاجزة عن الكتابة، والعين تذرف دمعًا ساخنًا عليك، وفي أفواهنا حمدٌ لله على قضائه وقدره، هو جل جلاله من أهداك لنا، وهو سبحانه من أخذك إليه.
حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون
الأسيف، عمّك: سام الغباري