على الرغم من هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع الكيان الإسرائيلي في كل من قطاع غزة وجنوب لبنان على حد سواء، إلا أنه قد لا يُقارن بذلك الأمل الذي يرافق عودة جموع الغزاويين إلى أطلال مساكنهم المدمرة تماماً في الشمال والجنوب على حد سواء أيضاً.
وعلى الرغم من فداحة التضحية التي قدمها المواطن الفلسطيني من مخزون خوفه وجوعه وحزنه على فراق كل ما كان يملك من أحبّاء وذكريات وأطلال اختفت أمام ناظريه بلمح البصر، يظل الحديث عن اليوم التالي للحرب على قطاع غزة هو السؤال الأبرز الذي يتوجب البحث عنه بين ركام المشاهد المتكررة والسيناريوهات المحتملة لما بعد هذه العودة، التي قد تكون الأخيرة أو لا تكون، بناءً على ما يسعى إليه الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، الذي يحاول أن يستهل دورته الرئاسية الثانية معتمداً على رؤيته الخاصة بالسلام في منطقة الشرق الأوسط، ومن حيث يدري كيف ومتى تكون.
كان واضحاً من خلال توقيت الصفقة الموقعة مؤخراً بين الكيان الصهيوني وحركة حماس أن هناك دوافع سياسية وراء هذا التوقيت المتزامن مع حفل تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العشرين من يناير الماضي. أقل هذه الدوافع وأضعفها إيماناً هو رغبة الرئيس ترامب في اعتبار هذه الصفقة بمثابة الهدية التي يتوجب تقديمها لأنصاره العرب والمسلمين الذين ساندوه في الفوز بالانتخابات الرئاسية، كجزء من وفائه بالوعود الانتخابية التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية. لكن، على ما يبدو، هناك دوافع أخرى وراء هذه الصفقة، التي ما زالت الكثير من بنودها تراوح مكانها، بناءً على ما تقتضيه المصالح الأمنية العليا لإسرائيل.
ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه جموع الفلسطينيين الغزاويين حتى مساء الأمس، دون جدوى من الجانب الإسرائيلي، فتح الممرات والطرق المؤدية لعودتهم إلى منطقة الشمال المحروقة عبر منفذ نتساريم وعدد من المنافذ المتاحة، كان الرئيس ترامب يحتفل بذكرى مرور أسبوع كامل على توليه السلطة في أحد منتجعاته في ولاية لاس فيغاس. وعلى طريقته الخاصة التي يحب أن يمرر خلالها ما أمكن من توجهات وسياسات تكشف حقيقة ما عجز عنه بلسانه في صيغة تصريحات وتغريدات ومكالمات هاتفية مع من يجد فيهم طعماً سهلاً لتمرير مخططاته ومراميه الخبيثة.
الحروب – خصوصاً وقد كشف الرئيس ترامب صراحة كعادته عن خطة السلام التي يسعى إليها – تجري بالشكل الذي يتناغم تماماً مع رغبة الجناح اليميني المتطرف داخل الكيان الصهيوني، إن لم يكن متحدثاً باسم الحكومة الإسرائيلية.
ترامب تحدث صباح أمس لوسائل الإعلام عن حاجة الفلسطينيين إلى الخروج من قطاع غزة في ظل حالة الفوضى التي تعيشها هذه المدينة، على حد وصفه. وإشباعاً لهذه "الحاجة الفلسطينية"، يتوجب على دول الجوار، بمن فيهم مصر والأردن، استضافة أكثر من مليون فلسطيني غزاوي "مؤقتاً" على أراضيها ريثما تنتهي جهود إعمار المدينة. وكأنها مجرد فسحة زمنية ليتناسوا من خلالها أحزانهم وآلامهم، التي تركت ندوبها في أجسادهم ونفوسهم، بعد أكثر من عام ونيف على بداية حرب الإبادة الجماعية التي عاشوها منذ انطلاق عمليات "طوفان الأقصى".
يبدو واضحاً من خلال وصفة ترامب الجاهزة التي قدمها بالأمس للرئيس المصري والعاهل الأردني أن اللعب على طاولة القضية الفلسطينية أصبح مكشوفاً هذه المرة، على خلاف الجهود السابقة. كما أن رفض الأنظمة العربية أو المعنية بمعاناة الشعب الفلسطيني لهذا العرض، الذي قدمه ترامب بخصوص استضافة أعداد كبيرة من المهجرين الفلسطينيين إلى أراضيها، يعني احتمالاً كبيراً لعودة القتال مجدداً إلى قطاع غزة، بذريعة رفض الفلسطينيين والعرب والمسلمين التعاطي بجدية مع مقترح ترامب. وستكون الإدارة الأمريكية الجديدة قد اكتسبت مشروعية تأييد الرئيس ترامب لإسرائيل في حربها مجدداً على قطاع غزة، على اعتبار أن مشروع السلام الذي يتحدث عنه ترامب يجب أن يقوم على أساس الحفاظ على الأمن الإقليمي للحكومة الإسرائيلية والكيان الصهيوني.
ترامب، الذي ربط في حديثه خطة إعادة إعمار قطاع غزة بخروج الغزاويين مؤقتاً من ديارهم المدمرة في القطاع إلى دول مجاورة أو غير مجاورة، من الواضح أيضاً أنه في حال قوبل مقترحه بالرفض عربياً ودولياً، سيقف عائقاً بكل ما أوتي من قوة أمام جهود إعادة الإعمار في قطاع غزة. ومبلغ تصوره في هذا الجانب أن الأموال المتوقع جمعها من العالم لإعادة إعمار قطاع غزة تكفي، على أقل تقدير، لبناء مساكن لهؤلاء الغزاويين المهجرين في الدول المجاورة أو غير المجاورة التي ستستضيف معاناتهم "مؤقتاً" على أراضيها، في حين ستتحول جهود إعمار قطاع غزة إلى جهود لبناء مستوطنات للشعب الإسرائيلي والكيان الصهيوني.
وبين هذا وذاك، يظل الرهان على صمود أبناء غزة في العيش فوق أنقاض مساكنهم المدمرة تماماً هو الرهان الأول والأخير على كسر مخططات التهجير التي يسعى إليها الرئيس ترامب. وحتى لو وافقت دول العالم مجتمعة على استضافة أبناء هذه المدينة المنكوبة، كما يحلو للرئيس ترامب التلويح به، وكأنه يعتبر الأمر مجرد فسحة عائلية لقضاء شهر العسل أو عطلة في نهاية السنة.
وما لم يعلمه الرئيس ترامب تماماً أن هناك شعباً أبياً يرفض بالإجماع أن ينسلخ جسداً وروحاً عن هويته الفلسطينية.
- من حساب الكاتب في فيسبوك