الكلمة فضاء أرحب ومدى أوسع من أن نعتقلها في حدود أضيق من خرم إبرة، والقلم عالم من الإعجاز وسيف عجزت كل السيوف أن تجاريه وهو أكبر من أن نجعله أجيرًا تحت رحمة أحد أو تحت أي وصاية..
والكلمة قبل أن تكون حروفًا متناثرة هي ضمير كاتبها وصورة له وهو بمقدوره أن يجعل هذه الصورة مشرفة ومشرقة أو أن يجعلها مبتورة الضمير وخالية من كل مقومات الكرامة والإباء. إن لم تغلف كلماتنا بالولاء لحبر القلم الذي نخط به ولقضية مصير نناضل من أجله، فلا لزمة لنا أن نواصل السير خاليي الإنسانية والضمائر..
ففي زمن الحرب والوصاية، كثيرة هي الأقلام المتعالية والصارخة اليوم في سماء وطننا الحبيب، وكثيرة أيضًا هي الكلمات والعبارات، إنما من بينها فقط نزر يسير يكتب للولاء للوطن مقابل من يكتب بعثرات ومتناثرات وقصاصات مهترئة الغرض منها الإضرار بالجميع وسحق وتمزيق الوطن..
فهناك أقلام تشجب وأخرى تندد، أقلام مع، وأقلام ضد.. كلمات تتشقشق هنا وأخرى تتلعثم هناك، والكل يغني على ليلاه في بحر سارد في الظلمات، إنما للأسف فمن بين كل هذه الكلمات ما عدنا نرى أو نسمع من يرهن مداد حبره لحب بلاده.
أقلام جنّدها أصحابها للشتم والقذف والإساءة والتشهير وتوجيه كل الميول إلى إذكاء الأحقاد وتأليب الجميع ضد الجميع، وأقلام وهبت مدادها لرفعة الأشخاص وتأليههم وتمجيدهم وتبجيلهم بعيداً عن المصداقية وإنما للنكاية والمهاترات وزيادة اللهيب سعيراً..
أقلام سخرت كل فواصلها ونقاطها للدفاع عن معتقدات ورؤى ومبادئ تهدم أكثر مما تبني وتخرب أكثر مما تعلي والويل كل الويل لمن لا يلبي أطروحاتها.. أقلام تكفر وأخرى تشهر، أقلام تمجد وأخرى تسجر في السعير.. أقلام اتخذت من الكلمة والحرف سبيلاً للابتزاز والانتهازية وأقلام ينفث مدادها نتن المناطقية والحزبية والولاءات الضيقة وتنفث المكر والخديعة والكراهية ويقولون إنهم يعملون من أجل الوطن.
أقلام مأجورة وأخرى أجيرة والثالثة مرهونة في أيدي الغير يتحكمون بها ويوجهونها حيثما أرادوا، وكل خطيئة تُرتكب يلصقونها في ظهرك يا وطني، وأنت منها عفيف كبراءة العذراء من كل افتراء.
ومن هنا تبرز أسئلة تقتلنا: أين الوطن من كل هذا الغثاء يا أصحاب الكلمة؟ يا أيها المؤتمنين على كلمة (اقرأ) وعلى وطن أطهر وأنقى من قطرة مطر؟ إلى متى سيظل وطننا مطية لأهداف خبيثة؟ وإلى متى سترهنون أقلامكم وكلماتكم تحت رحمة السدنة والكهان وحارقي البخور؟ متى سنكون نحن أجراء عند الوطن وليس هو الذي عندنا أجير؟
متى ستكون الكلمة الحقة هي التي تسيرنا وليست المصالح والأحقاد والانتماءات المتوحشة؟ متى سنُخرج الوطن من قبضة الزيف والمراهنات والكذب والرياء والمداهنات؟ متى سنكف عن جعل الوطن متكأ لكل من يراهنون عليه ويصعدون على أكتافه لمراتب القبح والخديعة؟
لنحرر أقلامنا من الرق حتى لا تصبح أجيرة، ولنحرر كلماتنا كي لا تغدو رهينة عند أحد وتباع وتشترى بأبخس الأثمان ويهبط سعرها حتى الدرك الأسفل من العبودية وترخص كرامتنا، وتصبح بسعر الصدأ وليس التراب فالتراب أطهر من أن نشبهه بمن يُرخص كلمته ويضعها تحت تابوت الخنوع ومقبرة الصراعات وكهوف الأوغاد