هناك جيل كبير تربى على مواقد 26 سبتمبر، ونحن أطفال عشنا ننتظر يوماً منيراً نستطيع فيه أن نأخذ فرصة من أمهاتنا للصعود ليلاً إلى الجبل وإشعال "التناصير"، والابتهاج بحدث لم نصنعه نحن، والشيء الذي يوحدنا جميعاً، وكنا نحول البلاد وأسطح البيوت وجبال البلاد إلى شعلة واحدة، من سقف دارنا الكبير كنت أرى التناصير في جبل العدين، أراها في جبال الغرب البعيدة، أرى جبل صبر وهو يشتعل، علم على رأسه نار، وأشاهد الجبال القريبة مضيئة بالثورة، جبل المزهد الفاصل بيننا وبين الهشمة كان يتعمم بشعلة السلام والنعمان وعلي عبدالمغني، وجبل الشعوب على رأسه شباب القرية في عمل واحد وهو إشعال الإطارات المستهلكة بيوم الثورة والجمهورية، وكلنا لم نعرف الملكية، ولا عشنا طغيان الإمامية، ولكنّ بأعماقنا شيئاً واحداً رغم طفولتنا: يوم ولد اليمن مرة أخرى.
كنا، قبل أسبوع، نجمع تنكات الفول وعلب الفاصوليا، وأكبر منهن السمن، نجمعهن من كل كدافة ومن كل مطبخ، ثم ومن قبل أسبوع نجمع الرماد من أصعاد المطابخ ومن الموافي، كنت أقول لأمي قبل الثورة بأيام ألا ترمي بالرماد، كنا نضعه بأكياس، إلى اليوم الموعود، الذي اقترب كثيراً، أصعد سطح الدار، وقد ملأت عشرات القناني بالرماد، أرصهن في دائر الدار، أسكب لكل قنينة قليلاً من السليط وأشعلهن، ويتعمم الدار بالجمهورية الخالدة، وتنتهي سهرة الشعلة وأناملي محترقة، لكل يمني حرق في يده، وهو يشعل شعلة اليمن.
كانت تتحول البلاد، كل البلاد، إلى شعلة واحدة، حتى الأمهات يسمحن بكل شيء، يسمحن بالقاز، الذي لا نستطيع طيلة العام أن نشعل منه ولو مرة واحدة، إلا في يوم الثورة يمنحننا القاز كله.
نحن أبناء الأرياف، ما هو سر أن نفعل كل ذلك؟ إنه سر الجمهورية.
هذا هو الجيل، ويعجز الكاهن عن محو 26 سبتمبر من ذاكرته، ولو تماهى هذا الجيل قليلاً مع الكهنوت ففي أعماقه مارد جمهوري سرعان ما يتعالى، هذا المارد الجمهوري يعرف معنى الثورة، ومتى ينتفض.