للتاريخ حقيقة واحدة لا غبار عليها؛ هي أن أخطر كابوس بالنسبة للطغاة والمستبدين شعوبهم حين تصحو ضمائرهم، وتنتفض مشاعرهم وتتقد إرادتهم تجاه مقدساتهم إن تهور الطغاة في المساس بها، وفكروا في انتشالها من أعماقهم، أو شطبها من وجدانهم وتجميد مباهجها في سلوكياتهم.. لحظتها تسقط كل المخاوف وتخفق كل صور الترهيب والقمع في كبح جماح الجماهير وإخماد سخطها وغضبها وهي تركل جبين الكهنوت وتبصق على جبهتيه بصورة ترتعد لها فرائصه وتُظهر ارتجافه وهشاشة قوته وسطوته.
تجلت عظمة هذه الحقيقة التاريخية، وابتلعت زنانير الشكوك في وعينا السياسي ومنظورنا الاجتماعي، ونحن نتابع عن كثب صخب الجماهير اليمنية في مناطق السيطرة الإمامية، وتدفقها كإعصار للاحتفاء بثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وإحيائه هذا الموسم بشغف منقطع النظير، وتحدٍّ صارم لا يقبل المراوغة رغم القيود الأمنية المشددة والأجواء الكهنوتية القمعية المتفشية في ضواحي المدن وباحات الشوارع وفضاءات الأرياف ومزالق القرى، إلا أن الكهنوت الرجعي أخفق، أيما إخفاق، في السيطرة على مشاعر الشعب تجاه مقدساته الوطنية، ولم يُفد الإمامة ما قامت به من تجريف ثقافي طائقي فاشل للتسرب والتوغل إلى أعماق الجمهوريين الأحرار واليمانيين الأقيال والشباب الأبطال. فحين انتصب 26 سبتمبر ولاح يومه في الآفاق، داس الأحرار بأقدامهم الثائرة على مخلفات الإمامة المكدسة في طريقهم- القديمة والجديدة منها- وتسلقوا ضحى المجد، ولامسوا بصيحاتهم وهتافاتهم وحماسهم جبين هذا اليوم، والزهو بمعانيه ومبادئه، والشموخ بمكاسبه واحتضان عَلَمه الجمهوري، وإعلاء شأنه؛ كونه دربهم الوحيد إلى الحرية، وأيقونة عزتهم وكرامتهم، ولن يحيدوا قيد أنملة عن أمجاده ودلالاته الوجودية التي ترسم مصيرهم وتؤمّن بقائهم.
من (السَّدة) مسقط رأس "علي عبدالمغني" بطل هذا اليوم، إلى شوارع صنعاء وأزقتها، ومن إب البهية إلى الحديدة الساحلية، وفي في الأحياء والحارات، في القرى والعزل المتاخمة للمدن والنائية عنها، تدفق الطوفان السبتمبري، وبللت أمواجه رؤوس وعمائم الإماميين السلاليين حتى خُيل لهم أنه " يوم القيامة" أطبق جفنيه عليهم وهم مصبحون، ولم يخطر ببالهم إلا أن أوعزوا لعبيدهم وأزلامهم أن يصادروا الأعلام الوطنية ويُسكتوا الأناشيد الجمهورية التي تغمر الأرض والإنسان، ملأوا الشوارع بأرتال من رجال الأمن والمتنكرين، فتناثرت الجماهير كالجراد وتجاهلت كل مظاهر الرعب الحوثي، وقالت كلمتها بصوت جماعي: نحن جمهوريون سبتمبريون وأنتم إمامييون سلاليون، لن تخدعونا بحيلكم ولا يعني صمتنا أننا تقبلنا مشروعكم السلالي ورضينا بكم تحكمونا باسم الولاية والاصطفاء أيها الرجعيون المتخلفون.
كان هذا المشهد التراجيدي بمثابة القرار الحتمي الذي تجلى أمام المليشيات في صنعاء، فتوشحت عبايتها القمعية، وشرعت في اعتقال أكثر من "3000" شاب في صنعاء وكذلك في إب، بعد أن تيقن لها أن هذا الشعب ليس بصدد إحياء يوم وطني فحسب؛ وإنما عزم لتوه على استعادة جمهوريته والخروج من صمته للوقوف في وجه الكهنوت ونبذه خارج حاضره ومستقبله، وأرى أن هذا المشهد يختزله بيت شعري ملهم للشهيد الزبيري، يقول فيه: الشعب أعظم بطشاً يوم صحوته من قاتليه وأدهى من دواهيه ولسان حالهم يقول: وسنمضي داحضين.. كل إثم شاء للناس الهوانا وسنمضي فارضين.. صدقنا حتى يُرى الحق مصانا.
والدلالة الأكثر دهشة ومصداقية التي يمكن أن نستشفها من ماهية هذا الغضب الجماهيري الوطني الجمهوري الصلب، أنه جاء بعد أيام من تباهي المليشيات السلالية واستعراضها العسكري الكرتوني في 21 سبتمبر البائس، حيث أرادت من خلاله استعراض عضلاتها القتالية أمام الشرعية والخارج الإقليمي والدولى بمدى قدرتها وجاهزيتها لاستئناف الحرب، إلا أن هذا الزعم الواهم حطمه بأس شعبي شديد، خرج متباهياً بثورته الخالدة ولم يأبه أو يخشَ بطش السلاليين؛ لأن الإرادة الوطنية تجابه أعتى الطغاة وتسحق جبروتهم طال الزمان أو قرب، ولا مفر من هذه الحقيقة التي ستشكل مستقبل المعركة الوطنية بين الجمهورية والإمامة في المستقبل القريب.