كان إحساس اليمنيين بالقهر والظلم واحداً شمالاً وجنوباً، وضنك حياتهم متشابهاً، وبؤس وجودهم يسير على نمط واحد؛ فالاحتلال الداخلي سائد في الشمال، والاحتلال الخارجي جاثم على الجنوب، كلاهما غاشمان ومستبدان ويجرعان الشعب نفس كأس الظلم والقهر والتخلف، دون أي اعتبار للأرض والإنسان هنا أو هناك، حتى طفح الكيل ووصل الأمر إلى الحد الذي لا يطاق ولا يحتمل، فنفدت طاقة الصبر في أوساط العامة والخاصة؛ وتولد الشعور الجمعي بضرورة الخلاص من هذين الخطرين الاحتلاليين بصورة ملحة لا تقبل التردد، وليس من سماته الخوف والاستسلام، والأغرب أن هذا الشعور لم يختلف ولم ينفصل عند الذي يواجه احتلالاً داخلياً والذي سيُقدم على طرد المحتل الخارجي.
وحين كادت أن تنفجر لحظة البدء، حدثت تراتبية عجيبة في الوعي النضالي والثوري آنذاك، حد القناعة بالشروع في تفجير ثورة ضد الاحتلال الإمامي الكهنوتي الداخلي في الشمال ثم يعقبها نفس الفعل بالنسبة للاحتلال الخارجي، وما إن بدأت سُحب ثورة 26 سبتمبر تغيم في سماء صنعاء وما حولها، حتى توافدت قوافل العون والإسناد والمشاركة من أبناء الجنوب، لأن الأمر لا يخص أبناء الشمال فقط، وإنما كانت زحزحة صخرة الإمامة الخطوة الأولى لطرد المستعمر، والعكس كذلك.
وهنا تكمن المعجزة وتكتمل الصورة العظيمة للذهنية اليمنية المقاومة والرافضة لكل أشكال الاحتلال، الذهنية التي حققت انتصارين عظيمين على احتلالين مختلفين في عامين متتاليين، وثورتين خالدتين صنعتا يمناً حراً حالماً بالحياة والحرية والديمقراطية والاستقرار واللحاق بالعالم الذي لم يكن لليمن أي حضور في خريطته أو معنى في تكوينه، اليمن الغائب المهمش الذي عانى ويلات الماضي وأصبح حراً مستقلاً يسعى لتعويض غيابه وإبراز ذاته وتحديد ملامح هويته وإرساء نظام حكمه ودولته.
وعليه؛ فالحقيقة الأهم التي يجب أن ندركها عن كثب بعد مضي ستة عقود على الثورتين؛ أن هناك ارتباطاً وثيقاً حد التماهي بين اليمنيين في المصير والحلم، والبقاء والاستقرار، ارتباطاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وجغرافياً وإنسانياً، ولا يمكن البتة القول إنه يمكن أن يستقر جزء من اليمن وتبقى الأجزاء الأخرى في حالة فوضى وعبث وحرب.
على مر التاريخ خريطة اليمن الكبير كانت حاضنة لهموم واستقرار اليمني من أي منطقة كان، فالخير يشمل الجميع والشر يضر الكل ويؤثر على شتى الأرض اليمنية مهما كانت نائية عن موطن الضرر وعمق الإشكالية، هكذا هي البنية الوجودية التاريخية التي اتسم بها اليمن من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، عبر أزمنة سحيقة ومراحل طوال من عمره ومواجهات مصيرية وإسهامات مشتركة خاضها اليمنيون بروح واحدة وقلب واحد.
ولذا؛ كانت الحيلة الخبيثة التي كانت تُمكّن الأئمة على مر الزمان والاحتلال الإنجليزي من السيطرة على اليمن هي الاتكاء على تجزئة وتشطير وتقسيم اليمن إلى دويلات وسلطنات ومناطق متعددة خاضعة لحكام مختلفين، كل واحد تفرد بجزء وتملَّكه، ولم يحدث الخلاص من هذا الداء النتن الذي مزق اليمن قروناً إلا حين التحم اليمنيون وخرجوا من حلبة هذه اللعبة المدمرة.
بعد قيام النظام الجمهوري في الشمال واستقلال الجنوب، كانت كل المعطيات والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية محفزة ودافعة لحدوث الوحدة اليمنية بين الشطرين، لكن مماحكات النخب السياسية الحاكمة في صنعاء وعدن أعاقت ذلك الأمر، وحالت دون حدوثه إبان الثورتين، وتعمق الصراع حتى تحقق الحدث التاريخي في 22 مايو 1990، والغريب في هذا الشأن أن الفواصل الشكلية المعبرة عن كوننا دولتين ليس لها معنى حقيقي في ذهنية اليمنيين؛ فإبان الوحدة لم يكن هناك أي استغراب أو اختلاف بين اليمني من أبين أو الضالع أو صنعاء أو حجة أو إب أو شبوة، كأن يد الله خلقتنا موحدين ويد الحكام هي من تفرقنا وتمزق نسيجنا الاجتماعي والجغرافي والإنساني كلما تغلبت عليها الأهواء الذاتية والأطماع الشخصية التي حاولت أن تشتت لحمتنا وتفتت نسيجنا الواحد بالمناطقية والحزبية والطائفية.
ونحن الآن نحيي ونحتفل بالثورتين من شتى ربوع اليمن بواحدية الشغف والإجلال، ومنظور ورؤية التعظيم والانتماء؛ لأن الثورتين هما الجذر الحقيقي الذي ينتمي إليه كل يمني شاء من شاء وأبى من أبى..
أُمَّان عظيمتان ولدنا من رحمهما معاً ولولاهن ما ولدنا أبداً، ولا ولد اليمن الكبير، اليمن العظيم الذي نمجده ونعشقه حد الجنون، تحية ولاء وتمجيد لسبتمبر وأكتوبر في كل ذكرى وفي كل مجد وكبرياء وانتصار خالد للأبد