حشد نت- عدن:
في رحلة تمتد لأكثر من نصف قرن، ظهر تمثال أثري يمني نادر في صالة عرض أوروبية مرموقة، بعد أن غادر موطنه الأصلي في جنوب اليمن، ضمن سلسلة من عمليات التهريب التي طالت التراث الثقافي للبلاد وأودت به إلى المزادات العالمية.
الباحث اليمني المتخصص في علم الآثار، عبدالله محسن، كشف عن تفاصيل هذه القطعة الاستثنائية التي تعود إلى شخصية نسائية بارزة من مدينة "تمنع"، عاصمة مملكة قتبان، إحدى أقدم حضارات جنوب الجزيرة العربية. التمثال، الذي يُقدّر عمره بنحو 2300 عام (القرن الثالث قبل الميلاد)، صُنع بدقة لافتة من المرمر والبرونز، ويُعد أحد أندر التماثيل المكتشفة من تلك الحقبة.
بحسب محسن، تم تهريب التمثال إلى خارج اليمن قبل عام 1970، متنقلاً بين فرنسا وسويسرا، قبل أن يظهر في معرض "PAD London" للفنون الرفيعة، والذي أقيم في ساحة بيركلي خلال أكتوبر 2017، ويُعد من أبرز المعارض السنوية التي تستقطب كبار تجار التحف والمؤسسات الفنية الدولية.
ووفقًا لمؤسسة "فينيكس للفن القديم" التي تولّت عرض التمثال، فإن هذه القطعة تمثل "أكمل تمثال مرمر معروف من جنوب الجزيرة"، وتتميّز بتفاصيل دقيقة في الملامح والزي الملكي والمجوهرات البرونزية التي تزين الجسد.
التمثال يُصوّر امرأة واقفة بثبات، ترتدي تاجاً وزينة معقّدة تشمل أقراطاً وقلادة وأساور بشكل ثعابين، وتمسك في إحدى يديها غرضاً غير معروف، بينما الأخرى ممدودة في وضع تعبّدي. الرأس مُتوج بتاج، والشعر البرونزي مصمَّم بعناية على شكل ضفيرة نُحتت بدقة من الخلف. أما العينان الغائرتان المطعّمتان بمادة داكنة – يُرجح أنها البيتومين – فتعكسان هدوءاً غامضاً وأسلوباً فنيًا نادراً.
ويرجّح الباحث محسن أن التمثال يجسد شخصية ملكية أو امرأة ذات مكانة رفيعة، وغالبًا ما كانت هذه التماثيل تُستخدم لأغراض جنائزية وتُدفن قرب القبور، ترافقها نقوش توضّح الهوية أو المناسبة.
وفي تحليل أوسع، يشير محسن إلى أن التعدد اللافت في تمثيل الوجوه البشرية في حضارات جنوب الجزيرة آنذاك – سواء عبر تماثيل مستقلة أو رؤوس على قواعد – يعكس تنوعاً دينياً وثقافياً عميقاً، لا يزال جزء كبير منه طيّ الغموض بسبب نقص الدراسات والمصادر.
غير أن هذه القصة الفنية والثقافية المذهلة تُخفي وراءها مأساة مألوفة. فقد تعرّضت آثار اليمن، منذ عقود، لعمليات نهب منظم وتهريب متواصل، تصاعدت وتيرتها مع سنوات الحرب الأخيرة، في ظل غياب الحماية المؤسسية للمواقع الأثرية وازدهار تجارة السوق السوداء.
ويُعرض كثير من تلك القطع – مثل هذا التمثال – في مزادات وصالات عرض شهيرة، دون أية إشارة إلى مصدرها غير الشرعي، مما يُجرد اليمن من ذاكرته البصرية وكنوزه الحضارية، ويُفاقم من ضياع هويته الثقافية على المدى البعيد.