خلال السنوات العشر الماضية، لم تدخر جماعة الحوثي وسيلة أو فرصة إلا واستخدمتها في تنفيذ جريمتها الأخطر والأكبر والتي يمكن وصفها بـ "الإبادة الثقافية".
بالتوازي مع قتل وتهجير اليمنيين، نفذت جماعة الحوثي عمليات ممنهجة في سبيل محو هوية اليمنيين واجتثاث تاريخهم الثقافي بما يساعدها على تنصيب ثقافة أخرى تضمن لهم التمكين والحكم، وجباية الأموال، والتحكم بالقبائل والسيطرة عليها؛ وبهذه الوسيلة فقط تسعى لإضعاف مقاومة اليمنيين لها.
لا يمارس الحوثيون الإبادة بمفهومها التقليدي المتعارف عليه، أي: جمع الناس في مكان ما وذبحهم، أو رميهم بالرصاص الحي، أو حرقهم، أو دفنهم وهم أحياء في مقابر جماعية كما حدث في القرون الماضية، لكنهم ينفذون الإبادة السياسية، والإبادة الجسدية، والإبادة الثقافية التي يعدُّها كثير من خبراء القانون شكلًا من أشكال الإبادة الجماعية.
أما الإبادة السياسية فتتجسد في قيام الحوثيين باجتثاث الأحزاب السياسية برمتها بمجرد سيطرتهم على أي منطقة، وهذا ما حدث لكل الأحزاب اليمنية، وعلى رأسها حزبا المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، فقد تم تصفية بعض قياداتهما، وتهجير بعضها خلال السنوات القليلة الماضية. وعندما نقول الإبادة الجسدية، فما يتعرض له اليمنيون من قتل وتهجير بدوافع عرقية وطائفية في صعدة وعمران وتعز وعدن ومأرب والبيضاء وبقية المحافظات اليمني، يعدُّ إبادة جسدية جماعية وإن بدت في نظر بعض المتابعين جزئية.
إن ما يتعرض له سكان تعز أو مارب يمكن وصفه بالإبادة الجسدية الجماعية. آلاف اليمنيين في هذه المحافظات تعرضوا للإبادة بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة المفخخة والألغام والحصار المطبق. ومن شواهد ذلك ما تعرض له حوالي 35 ألف يمني يسكنون مديرية العبدية في مأرب أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن والذين استهدفوا بحصار قاسي حيث منع عنهم الغذاء والدواء والأوكسيجين المنقذ للحياة، وتم قصفهم بالصواريخ البالستية، وعندما نقل المصابين جراء هذا القصف إلى المستوصف الوحيد في المديرية، قام الحوثيون بقصفهم للإجهاز على الجرحى وإبادتهم.
الإبادة الثقافية
تترك حركة الحوثي السلالية المدن، وتتوجه إلى القرى التي تتواجد فيها أعرق القبائل اليمنية للسيطرة عليها، وعندما تنجح في السيطرة على قبيلة دون قتال تهجر من يعارضها فيها، وتبدأ بنشر فكرها بالقوة في المساجد وبين طلاب المدارس، أما القبيلة التي تدافع عن نفسها فتستهدف أهلها بالقتل والتهجير، وهذا يعني "إبادة جسدية" للسكان الأصليين الذين رفضوا اعتناق معتقدات الحوثيين. وعندما ينتهون من قتل الآباء أو تهجيرهم، يلتفتون إلى الأبناء فيخضعونهم لدورات خاصة بهم لنشر فكرهم الحوثي العنصري ضد معتقد آبائهم، وهذا ما يوصف بـ "الإبادة الثقافية".
أدرك خبراء القانون أن تدمير جماعة أو شعب يمكن أن يتم من خلال استهداف ثقافته بشكل ممنهج لينتهي الأمر بإنهاء روحه ثم وجوده، "وبالتالي لا يمكن حصر الإبادة الجماعية على مظاهرها الجسدية وحسب"(١)، بل يمكن التأكيد على العلاقة المباشرة بين العنفين الثقافي والجسدي، واشتهرت في هذا السياق مقولة للشاعر الألماني الشهير هاينريش هاينه 1812 وهي: "أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر بحرق البشر أيضًا"(٢)؛ وهذا ما جعل فقهاء القانون يعدون مفهوم الإبادة الجماعية الحالي ناقصًا، بل ويطالبون بسن تشريعات خاصة بالإبادة الثقافية.
وعندما نتحدَّث عن ثقافة أي مجتمع أو جماعة، فنحن لا نقصد مجرد الأفكار، فالثقافة هنا هي السلوك والطبائع والوجوه المميزة والبارزة لمقومات الجماعة أو الأمة التي تميز بها عن غيرها بما تقوم به من العقائد، والقيم، واللغة، والمبادئ، والسلوك والمقدسات، والقوانين، والتجارب، والمعارف، والمعتقدات، والعادات والتقاليد، والقيم، وحتى القوانين، وضوابط ومحددات أي جماعة أو شعب.
وقد عرفت موسوعة الدراسات السوداء "Black Studies"(٣) الإبادة الثقافية، بكونها إفناء متعمدًا وممنهجًا لثقافة شعب ما، من قبل مجموعة أخرى، تتم هذه العملية عبر الإرهاب الجسدي والعنف والتعذيب النفسي والإغواء.
أما أستاذ التاريخ في جامعة ويست تشيستر في بنسلفانيا لورانس ديفيدسون في كتابه الإبادة الثقافية، فقد عرف المصطلح بأنه: "تعمّد مجتمع ما، قاصدًا إلى إضعاف وتدمير القيم والممارسات الثقافية العائدة إلى مجموعات لا تنتمي إليه. ويمكن أن يكون هدف الإبادة الثقافية هو إضعاف مجموعة العدو، أو يكون إهلاكًا حاسمًا لثقافة العدو، باعتبار ذلك جزءًا من برنامج نسف المقاومة الفاعلة للاحتلال أو السيطرة"(٤).
وفصّل الكاتب الأمريكي ديفيد نرسسيان في تعريفه بعض أشكال الإبادة الثقافية، مؤكدًا أنها "تمتد أكثر من تلك الهجمات على عناصر المجموعة المادية أو البيولوجية لتشمل القضاء على كل مؤسساتها بنطاق واسع. ويتم ذلك بطرق متنوِّعة، غالبًا ما تتضمن إلغاء لغة مجموعة، أو من خلال القيود المفروضة على ممارساتها لعاداتها التقليدية، ومن خلال تدمير المؤسسات الدينية، أو اضطهاد رجال الدين، أو الهجمات على الأكاديميين والمثقفين. إن عناصر الإبادة الثقافية قد تتجلَّى عندما يتم تقييد الأنشطة الفنية والأدبية، أو من خلال تدمير الكنوز الوطنية، والمكتبات، والمحفوظات، والمتاحف، والقطع الأثرية أو مصادرتها"(٥).
ولو طبقنا ما ذكر في توصيف الإبادة الجسدية والثقافية فسنجد أن ما يحدث في اليمن ليس مجرد حرب، وإنما هي عملية اجتثاث مجموعة من البشر، واستزراع آخرين يحملون فكرًا مغايرًا، وأنه يتم استنادًا إلى اعتقاد بتميز عرق عن غيره من اليمنيين.
في حقيقة الأمر، لجأ كثير من خبراء القانون الدولي إلى التعامل مع المعايير والشروط المستخدمة في وصف جريمة الإبادة الجسدية، وذلك لتحديد ما إذا كان الذي تعرض له أي مجتمع يعدُّ إبادة ثقافية أم لا، بالرغم أن إبادة ثقافة أي مجتمع يعني أنه أصبح بلا وجود.
ولكي توصف جرائم الحوثيين بالإبادة الثقافية، يجب أن تتوفر عدد من الأركان التي استخدمت في تحديد وقوع الإبادة الجماعية الجسدية، ومن أهمها:
1- الركن المادي: يتمثل هذا في القيام أو الامتناع بأفعال/عن لأفعال تهدد المصالح الجوهرية، لفئة معينة دينية، أو عرقية، أو سياسية معينة، على أن يكون القصد من هذه الأعمال القضاء على معتقدات أو ثقافة جماعة أو أقلية معينة بشكل جزئي أو كلي، وسواء نجحوا في ذلك أم لا، ويجب أن تشكل هذه الأفعال أثرًا ملموسًا يصيب المعتقدات الثقافية أو الفكرية لهذه الجماعة. ويتوجب لقيام جريمة الإبادة الثقافية أن تكون الجريمة موجهة ضد جماعة لتغيير هويتها وثقافتها.
ومن أمثلة هذه الممارسات التي تعدُّ جريمة إبادة ثقافية في اليمن تسخير العملية التعليمية الأساسية والثانوية والجامعية والمهنية لتغيير هوية وثقافية اليمنيين دون رضا أولياء الأمور والطلاب أنفسهم، وتجنيد الأطفال بهدف صياغة أفكارهم ومعتقداتهم، واستغلال كافة وسائل الإعلام لنشر فكرهم الذي لا يرتضيه اليمنيون، والإلزام بما يسمى بالدورات الثقافية التي تقيمها للموظفين قسرًا، والتهجير، وتفجير المنازل، والتجويع بهدف تركيع المواطنين وتغيير ثقافتهم، وتغيير أسماء الشوارع والقاعات والمؤسسات، ومصادرة الكتب، وملاحقة أصحاب المعتقدات المخالفة، وغيرها من الممارسات التي يصعب حصرها.
2- الركن المعنوي: يتمثل في توافر القصد العام، وهو العلم بأركان الجريمة وإرادة ارتكابها، ويتطلب أيضًا إلى جانبه القصد الخاص النية الإجرامية البعيدة، غير أنه لا معنى لوجود القصد الخاص دون القصد العام، وعلى هذا الأساس فإن الركن المعنوي لجريمة الإبادة الثقافية، يقوم على القصد الجنائي العام، وهو قصد ارتكاب الجريمة بدافع سياسي أو ديني أو عنصري، والقصد الخاص هو نية إلحاق ضرر جسيم بمعتقدات الجماعة الفكرية أو الثقافية أو محوها بصورة نهائية. (٦) أي: نيّة المتهم في ارتكاب جريمة المحو الثقافي. ويمكن إدراك هذا الركن في إعلان الحوثي نشر ما يصفونه بـ "الهوية الإيمانية"، و"الثقافة القرآنية"، و"الراية الإيمانية" وهي مشاريع فكرية هدفها اجتثاث هوية اليمنيين التاريخية، وإلغاء التنوع العقائدي، وعلى رأسها الفكر السني الذي يمثل الأغلبية في اليمن. مقابل ذلك نشر معتقدات الجماعة التي تجعل من حكم السلالة الرسية شرطًا أساسيًا من شروط الإسلام والوطنية، ومن يخالف ذلك فهو كافر أو ملحد، أو على أقل تقدير خائن، أو عميل، أو فاسد، وكل هذه تهم تعطي الحوثيين غطاء لإبادة كل من يتم وصفهم بها، سواء كان شخصًا، أم عائلة، أم قبيلة، أم حزبًا سياسيًا.
تقوم جماعة الحوثي بتبني خططًا ومشاريع معلنة لنشر هذه الأفكار في الأوساط المجتمعية، وتسخر إمكانياتها لتحقيق ذلك بالترهيب والترغيب، وبالتالي فإن الركن المعنوي متوفر في جريمة الإبادة الثقافية المرتكبة من قبل جماعة الحوثي؛ لأن هذه الجماعة قيادة وأفراد لديها القصد في تغيير هوية اليمنيين واجتثاث ثقافتهم، ولديها العلم بجميع مراحل جرائم الإبادة والنتائج المترتبة عن هذه الجرائم. فهم يكثفون جهودهم في هذه المرحلة للقضاء على قيم وأخلاقيات ومكتسبات ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وعلى رأس هذه القيم المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية وإلغاء العنصرية العرقية (خرافة الولاية)، وكذلك بهدف نشر التشيع في اليمن واستهداف الغالبية السنية.
مراجع وهوامش:
1- مقالة لديفيد نرسسيان، إعادة التفكير في الإبادة الجماعية الثقافية بموجب القانون الدولي.
2- "هولوكوست الكتب"..عندما أحرقت أعمال أشهر الكتاب الألمان، مارك لوبكه/ ابتسام فوزي، موقع ألمانيا بالعربية DW) عربية)، نشر بتاريخ: 10 مايو 2013.
3- "موسوعة الدراسات السوداء": هي المصدر المرجعي الرئيسي للبحث المبتكر حول تجربة السود في أمريكا. تم تطوير مفهوم هذه الموسوعة من مجلة الدراسات السوداء (SAGE) الأمريكية وتحتوي على تحليل كامل للقضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتاريخية والأدبية والفلسفية المتعلقة بالأمريكيين من أصل أفريقي. وتعرض الموسوعة أكثر من مجرد سرد للثقافة السوداء أو السود التي بدأت من الاحتجاجات في كلية ولاية سان فرانسيسكو في عام 1967 والتي أدت إلى انشاء قسم خاص يمنح الشهادة الجامعية حول دراسات السود.
4- الإبادة الثقافية، لورانس ديفيدسون، ترجمة: منار إبراهيم الشهابي، العبيكان للنشر، ص26.
5- إعادة التفكير في الإبادة الجماعية الثقافية بموجب القانون الدولي، مرجع سابق.
6- دراسة: النظام القانوني الدولي لجريمة الإبادة الثقافية- أقلية الأيغور أنموذجًا، عطية أحمد عطية السويح، رئيس قسم القانون الدولي في كلية القانون بجامعة الجفرة –ليبيا. نشرت في مجلة القانون الدولي للدراسات البحثية، العدد الرابع –يوليو 2020. تصدر عن المركز العربي الديمقراطي للدراسات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية –برلين- ألمانيا.