معاوية بين الديني والسياسي في تاريخ الإسلام

محمد العلائلي

إذا قلت معاوية، فأنت تقول السياسة والدولة وما يقترن بها من الخصال الممدوحة: الهمّة، الفطنة، واعتدال المزاج، ورحابة الفكر، وجودة الاختيار.

ليس رمزاً دينياً معبوداً لطائفة أو فرقة، وإنما هو "تجربة" تاريخية عربية مرجعية في السياسة والدولة، عندما لم يكن للعرب قبل ذلك "نظرية" في السياسة.

تجربة كانت في بعض جوانبها ومعالمها شبيهة بزمانها، وأما في الجوانب والمعالم الأخرى فهي التعبير المألوف عن الطبيعة الخاصة للسياسة والدولة في كل زمان ومكان.

إن معاوية ضحية الخلط الذي لم يتوقف إلى اليوم بين ما هو سياسي (دنيوي) وما هو ديني (التقوى والورع) في قصة الإسلام.

فهناك تاريخ الدين ومعياره مختلف عن المعيار في تاريخ الدولة.

ومن الخطأ معاملة السياسي من الأحداث والعلاقات والصراعات والنتائج على أنه ديني،

أو العكس، أي معاملة ما هو ديني منها على أنه سياسي.

لا شك أن لـ معاوية حضور في الجزء الديني من القصة (فترة النبوة، صحبة النبي)، لكنه حضور ضعيف ومتأخر، وهذا لا يعيبه ولا ينكره أحد.

أما حضوره الأكبر وبلا منازع فإنما يكمن في الجزء السياسي (الدولة والإدارة) والحربي (الفتوحات) من القصة الكبرى للإسلام.

ولقد ظل الفكر التاريخي الإسلامي القديم يرجِّح، في حكمه على الرجال والأعمال، معيار الدين (المثال الديني المجرد) على معيار السياسة (المصلحة العامة)، فينتهي إلى غمط معاوية حقه كمؤسس لأعظم الدول اتساعاً في تاريخ العرب.

رغم أن المفاضلة بمعيار الدين من أكذب المفاضلات، لأن معيار الدين مرجعه إلى الله، ومن ثمّ فهو من علم الغيب، وليس لأحد أن يقرر في الدنيا من هو الأفضل عند الله.

وهكذا.. فالتاريخ الإسلامي ليس تاريخاً واحداً بل تاريخين: تاريخ الدين وتاريخ الدولة.

والتاريخان متداخلان ومتمايزان في نفس الوقت.

بالعودة إلى معاوية، فمن المطاعن الشهيرة المتداولة ضده قديماً وحديثاً أنه ورَّث الخلافة لابنه يزيد.

وقد جرى ترميز لحظة التوريث من جانب الخصوم وتصويرها كنقطة بداية للتحول نحو ما يسمونه بتفخيم "المُلك العضوض".

لكن لا شيء يدل على أن من أدانوا معاوية يرفضون فكرة التوريث من حيث المبدأ، فالدلائل تشير إلى أن أكثرهم إنما يقفون ضدها فقط لأن معاوية هو المورِّث ويزيد هو المورَّث له.

فلو كان علي هو من نقل الخلافة إلى الحسين، لما رأوا في ذلك مدخلاً للطعن!

هذا تماماً هو موقف الشيعة.

بعد مقتل علي بويع ابنه الحسن بالخلافة، وحمل اللقب لمدة نصف عام قبل أن يقرر إعطاء البيعة لمعاوية لأن موازين القوة لم تكن لصالحه.

والشيعة عامةً يعتبرون الحسن إمامهم الثاني بعد علي.

غير أن خصوم "التوريث" يصمتون عن هذه الواقعة، ويصمتون عن العقيدة المرتبطة بها! [الخوارج وحدهم رفضوا ملوكية بني أمية من مبدأ نظري مساواتي مثالي].

في القرن الماضي، كان طه حسين ممن أنكروا على معاوية توريثه الخلافة لولده يزيد، لأن التوريث، كما يقول، بدعة غير مباحة في الإسلام، ("الفتنة الكبرى، علي وبنوه" ج2 ص227).

وكأن معاوية سنّ سنّة في الدين!

لم يسأل طه حسين نفسه لماذا انتهى الأمر إلى تلك الصيغة من الحكم؟

ألم يكن ذلك ناتج عن عدم وجود آلية موحدة لانتقال الخلافة؟

وما الفتنة إلا التعبير التراجيدي عن فراغ دستوري لم يُمتحن المسلمون بمثله من قبل.

ويفعل عباس العقاد الشيء نفسه.

ففي كتابه عن معاوية، يسير سيرة السابقين فيُنكر على معاوية التحول إلى المُلوكية الكسروية والهرقلية..الخ، وأنه كان بإمكان معاوية -كما يرى العقاد- أن يأخذ بسُنّة الخلفاء بعد النبي، ويبتعد عن توريث الخلافة لابنه.

ويعترض العقاد على ابن خلدون لأنه كاد أن يحسب معاوية "بقية الخلفاء الراشدين، ويتمحل المعاذير له في إسناد ولاية العهد إلى ابنه مع فسوقه وخلل سياسته، وكراهة الناس لحكمه حتى من أبناء قومه".

طه حسين والعقاد، يحاكمان معاوية بالاستناد إلى معايير أخلاقية متعالية على التاريخ.

والعقاد إلى جانب ذلك، يتخذ من الصورة الطوباوية التي لدى المسلمين عن فترة الخلفاء الأربعة مقياساً أخلاقياً مرجعياً للحط من تجربة معاوية.

لا شك عندي أن ابن خلدون أكثر عقلانية وإنصافاً، وأقدر منهما على تمثُّل عصر معاوية وظروفه.

وبما أن حقيقة "الإمامة" تتمثل في النظر في مصالح الأمة، فالمصلحة العامة حينها كانت تستدعي إسناد معاوية ولاية العهد لابنه يزيد،

وهذا هو لبّ موقف ابن خلدون من المسألة، حيث يقول: "والذي دعا معاوية لايثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع".

وفي تعليقه على موقف ابن خلدون من توريث معاوية ليزيد، يكتب المستشرق ستيفن هامفريز قائلاً: "لقد ناضل ابن خلدون من أجل التوفيق بين المُثل الإسلامية والواقع الدنيوي؛ إذ كان يعتقد في أن كليهما يمثلان أبعاداً ضرورية للحياة البشرية".

مع ذلك، وكما يستنتج هامفريز من آراء ابن خلدون، فإن "مُثل الإسلام لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الاعتراف الصريح بحقائق الطبيعة البشرية والديناميكيات المحددة للتنظيم الاجتماعي البشري"، (ستيفن هامفريز، "معاوية ابن أبي سفيان من الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية"، ص168 و169).

وما نقوله نحن هو أن معاوية لو لم يحوّل الدولة العربية الإسلامية إلى "مُلك"، لكان البديل المقابل هو تحويل الدين والدولة معاً إلى "كهنوت"،

والبديل الآخر تجدد الفتنة والفوضى والاقتتال الأهلي.

أي أن معاوية في عصره هو النقيض السياسي العملي الناجح لهذين البديلين الأكثر قبحاً من كل ترتيب ملكي وراثي.

والبديل الآخر تجدد الفتنة والفوضى والاقتتال الأهلي.

أي أن معاوية في عصره هو النقيض السياسي العملي الناجح لهذين البديلين الأكثر قبحاً من كل ترتيب ملكي وراثي!