الكتابة حول الثاني من ديسمبر هذا الحدث المهم محفوفة بالتعقيد والغموض والتشابك، وليس من السهل استنباط الحقائق وتفكيك ماهية الحدث، باستثناء التجرد والتحديق من زاوية معينة تعيد النظر بعيداً عن استحواذ زخات الحقد أو هفوات التشفي، والتأني في تتبع طبيعة الأمر وتفصيلاته المؤثرة في دوافعه وغايته ومنطقيته بما يضمن عدم الوقوع في أفخاخ التحيز ومجانبة الصواب والمصداقية في التأمل بعين دقيقة كاشفة عن خبايا وأسرار ودلائل هذه الانتفاضة.
بادئ ذي بدء يمكن التسليم بأن ما جرى في هذا اليوم ليس حدثاً عابراً يمكن التعليق عليه بيسر أو تسرُّع؛ وإنما اعتباره تجريداً وخلاصاً من تهمة الشراكة مع خصم تاريخي يأبى وينفر من أي شريك سياسي، ونهجه للتفرد بالسلطة وفرض رؤيته الرجعية على مرتكزاتها. ولذا؛ فقد فشلت محاولة الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح المقتضبة في جره إلى مربع العمل السياسي وإدارة البلد بناءً على حفظ مؤسسات الدولة ورعاية مصالح الشعب. هاتان النقطتان كانتا محور الاختلاف الجوهري الذي قاد إلى بلوغ يوم الانتفاضة في الثاني من ديسمبر 2017م، التي جهرت علنية بوجوب التصدي والمقاومة لمليشيات الحوثي الإمامية.
رغم أن أيام الانتفاضة كانت متسارعة، إلا أنها فتحت الباب على مصراعيه لمشهد يمني جديد، غدت فيه المليشيات الخصم الوحيد للشعب وللشرعية وللتحالف. ولذا؛ فلا يمكن تحت أي وجه أو منظور سياسي إنكار أو نفي انتمائها إلى الفعل النضالي الجمهوري ومقاومة العدو السلالي؛ كونها انبثقت في قلب العاصمة المختطفة الخاضعة لسلطة قمعية متوحشة تقضي على كل مناوئ لها بكل السبل، ومع ذلك انفجرت الانتفاضة التي قادها الزعيم علي عبدالله صالح حتى لو كلفته حياته كردة فعل وطنية تثبت أن هذه الجماعة عدوة للشعب ونظامه الجمهوري، كحقيقة مطلقة لا تقبل المساومة، فكان حَري به أن يختم تاريخه السياسي بحدث وطني يؤسس لدرب وحيد ينبغي على الشعب عبوره، وخوض مغامرات النضال والكفاح في سبيل تخليص اليمن من طغيان الإماميين الجدد الذين صعدوا إلى السلطة بالتحايل والخداع والمؤامرات الداخلية والخارجية، واللعبة القذرة التي حيكت ضد اليمن ونظامه الجمهوري، والساعية لتغيير خارطة المشهد السياسي، وإحلال يمن ممزق بهويات جديدة وشبكة مصالح جديدة دمرت اليمن وبعثرت كيانه يمنة ويسرة.
اتخاذ الشهيد صالح لهذا الموقف التاريخي في 2 ديسمبر يُعد اختيار الرجل الحر الشجاع المباسل والمضحي بروحه في سبيل الحرية، والشهادة أهون من غيابها، ولذا تتسم هذه الانتفاضة بالشجاعة والجرأة والمصداقية الذاتية والوطنية.. خشي العدو من تبعاتها المضاعفة، فقمعت بقسوة، وكانت الغاية القضاء على زعيمها باعتباره الأخطر والأقدر على تغيير مجرى الأمور، وخلق التفاف شعبي محتمل، وتأجيج ردة فعل مناوئة للمليشيات في مناطق سيطرتها.
الشيء المثير للغرابة في سياق الانتفاضة هو ردة فعل قبائل من طوق صنعاء تملكها الخوف من جانب، وسيطرة الحقد والمصالح من جانب آخر، فتجمدت حركتها وأخمدت وثبتها، واستأثرت عليها فلسفتها المتجذرة القائمة على مناصرة الغالب وتأييده كما هو معروف عنها في تاريخها الطويل، الذي لم يشذ عنه مساندة الأصلح لها أو للوطن، أو الأقرب للمنطق الطبيعي الذي تفرضه معطيات اللحظة.
أدرك الكثير بعد فوات الأوان أن خذلانهم وتخليهم عن رجل بحجم صالح ودهائه السياسي وخبرته الوطنية، وتركه يواجه هذه المليشيات وحده في هذه الانتفاضة كان إخفاقاً لا يغتفر؛ لأن الرجل كان الأمل الوحيد والشوكة المنغصة في حنجرة الحوثي، التي بمقدورها قلب الموازين وتحريك البساط في هذا التأزم اليمني وقلب المعادلة، إلا أن الفهم القاصر والرؤية المتحجرة والضغينة المتأصلة حالت دون أن نأبه للمخاطر المنتظرة من محاولة طي ملف صالح، ودخول الصراع مع مليشيا الحوثي منعطفاً جديداً أكثر غموضاً وتناقضاً، ولو لم يكن هدف المُخرج لكل هذه الأحداث، منذ 2011، التخلص من الزعيم علي عبدالله صالح لما وصلنا لهذه النتيجة المشؤومة التي خلفها استشهاده، وإخلاء الساحة اليمنية للحوثي، والتعامل معه كسلطة أمر واقع مفروضة بتعليمات خارجية من مصلحتها بقاء اليمن على هذه الشاكلة.
لم يختفِ مسار الزعيم الشهيد صالح المتجسد في هذه الانتفاضة؛ بل كان السبب في انطلاق المقاومة الوطنية في الساحل الغربي بقيادة العميد طارق صالح، الذي اقتفى أثر الشهيد في النضال الجمهوري حتى فرض نفسه كقوة وطنية لها وجودها وحضورها العسكري والسياسي في المشهد، خاضت صولات وجولات في تحرير الوطن وحققت مكاسب ملموسة، وكان بمقدورها فرض خارطة جديدة في مسرح العمليات العسكرية مع الحوثي على مستوى اليمن، لولا القرارات الدولية التي أعاقت تقدمها ومنعها من تحرير الحديدة الوشيك فيما مضى، على سبيل المثال، وابتداع مفاوضات مفرغة من المعنى هدفت إلى تقييد مشروع التحرير وإفراغه من عزيمته لصالح تمدد العدو شرقا والإبقاء عليه.
في الذكرى السادسة لانتفاضة 2 ديسمبر، واستشهاد الزعيم صالح بكبرياء وشموخ، تتكشف الحقائق وتُرسخ الرؤى المثبتة أن هذا الرجل أجمل ما حدث لليمن طيلة ثلاثة عقود، وأن قدرته على قيادة دفة الوطن في هذه المدة رغم التعقيدات الجسيمة المتجذرة في اليمن، سواء في القوى السياسية أو في العلاقات الخارجية أو في بنية المجتمع اليمني سياسياً واجتماعياً ودينياً، حيث تتعثر النجاة من تبعاتها وإعاقتها لبناء الدولة وتناقضاتها وتحالفاتها ما نشهده منذ ترك صالح السلطة، وقد استشعر جمهور من الشعب اليمني تفريطه غير المبرر بهذا القائد الهمام، وركوب موجة كان الغرض منها إسقاط الأنظمة المتماسكة عربياً، والشعوب المستقرة، وإغراق المنطقة في دوامة الفوضى والنزاعات والتشظيات التي قذفت بها في حروب داخلية وبؤس وتشرد منقطع النظير منذ تحررها من الاستعمار والأنظمة الديكتاتورية.
سيظل الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح قائداً وطنياً ورمزاً جمهورياً مقارنة بنظرائه من ساسة وقادة اليمن العاجزين عن تحقيق أي مكسب وطني يُذكر؛ بل ضاعف فشلهم وخذلانهم للشعب الحب والشغف والحنين لأيام صالح، ودهائه، ونظامه، الذي مهما كانت سلبياته؛ إلا أنها أنجح من كل خير وديمقراطية ووضع كان سائداً من قبله أو جاء من بعده، وقد أدرك هذه الحقيقة أعداؤه قبل أنصاره وأقروا بها رغماً عنهم.
سيل من الرحمات تغشى روح الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح، ورفيق دربه الشهيد عارف الزوكا، وكل من استشهد من أجل اليمن والدفاع عن نظامه الجمهوري.