في جلسته الأولى المنعقدة لانتخاب رئيس جديد للبلاد، فشل البرلمان اللبناني مجددًا في الحصول على 86 صوتًا من أصل 128 صوتًا، وهو النصاب القانوني اللازم للتوافق على منصب رئيس جديد للجمهورية، والذي ما زال شاغرًا منذ أكثر من عامين ونصف على خروج العماد ميشال سليمان من قصر بعبدا.
هذا التعطيل المتعمد، الذي يقف وراءه كالعادة الثنائي الشيعي "حزب الله وحركة أمل" داخل البرلمان اللبناني، لم يدرك ولم يكترث لحقيقة ما وصل إليه الحال في هذا البلد، بسبب الحاجة الدستورية إلى صوتيهما في تقرير مصير شعب ينتظر منهما تقرير مصيرهما أيضًا؛ في ما إذا كانا جزءًا من النسيج اللبناني "العربي"، وعليهما أن يتحملا جزءًا من المسؤولية الملقاة على عاتقهما في إخراج بلدهما من منزلق الانهيار والفوضى الذي يتجه بهما، أم أنهما ما زالا خارج إطار اللحمة الوطنية اللبنانية، وعليهما انتظار المزيد من تعليمات طهران وتوجيهات خامنئي بما هو مطلوب منهما.
وكأن ما عصف بلبنان أو ما يزال يعصف به من تجاذبات ومكايدات وتدخلات ليس كافيًا من وجهة نظر هذين المكونين، حتى يرشح أعضاؤهم في جلسة اليوم ورقة بيضاء فارغة من الحبر بزعمهم أنها مرشحهم لرئاسة الجمهورية اللبنانية، أو أن ما أحدثوه من تعطيل متعمد ومتكرر في كل مؤسسات الدولة اللبنانية التشريعية والتنفيذية منذ العام 2006 وحتى اليوم ليس كافيًا لشعب لبنان الذي ذاق مرارة الجوع والحرمان بسبب تدخلاتهم في إنهاك الاقتصاد اللبناني، وضاق ذرعًا أيضًا من وجودهم في العملية السياسية برمتها، طالما أن وجودهم في البرلمان أو غيره لن يشكل إلا تعطيلًا جديدًا للقرار السياسي اللبناني أو تجييره لخدمة أجندة الفوضى والحرب والاقتتال.
اليوم، وأنا أشاهد وقائع جلسة انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية كمخرج سياسي لا بد منه بالنسبة لهذا البلد المثقل بتبعات الحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبناني بسبب موقف أحادي طائش من قبل حزب الله، سألت نفسي: هل يدرك هؤلاء النواب الذين عفا عنهم الزمن ما لصوت كل منهم من أهمية أخلاقية تعيد الاعتبار لكرامتهم الدستورية كمواطنين لبنانيين يتشاركون مع أبناء بلدهم خيبات الحاضر وتطلعات المستقبل؟ وهل عليهم أن يحفظوا أو يحافظوا على آخر ما تبقى من شرف حصانة مهدورة لم تقدم لشعبها سوى الوعود الكاذبة والشعارات المعلبة؟ وهل سيخالج أيًّا منهم الخجل في حال وقف صوته ضد إرادة شعب يتوق للسلام والحرية والكرامة والعيش الكريم في بلد لم يعد يحتمل المزيد من الصراعات، الاحتقانات، والانهيارات؟ وهل من أهمية لتمثيل هذا العضو أو ذاك لإرادة الشعب في البرلمان وهو لا يعي أو يستشعر خطورة ما يجب أن يتخذه من قرار بالنيابة عن الشعب؟
أسئلة كثيرة كانت ترافق استراحة نواب البرلمان اللبناني الذين غادر المعطِّلون منهم قاعة البرلمان بزعمهم أن أصواتهم هذه المرة ستقف عائقًا أمام انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، كما كانت في الدورات السابقة من التعطيل. لكن ما لم يستوعبه هؤلاء الرعاع أن القرار اللبناني هذه المرة لن ينتظر موافقتهم وأصواتهم، وأن وجودهم أصلًا أو عدمهم داخل البرلمان هذا اليوم سواء بسواء. وعلى النخب اللبنانية، بمساندة إقليمية ودولية، أن تزكِّي بالإجماع انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية بعد حصوله في الدورة الثانية من التصويت على 98 صوتًا من أصل 128 صوتًا، وهو مجموع أصوات البرلمان اللبناني.
بانتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، تكون لبنان قد خرجت اليوم من دائرة الفراغ الدستوري والسياسي الذي يعانيه القرار السياسي اللبناني داخل قصر بعبدا. لكن التحديات التي تنتظره هي أكثر بكثير من مجرد ملء شاغرية المنصب، وعليه البدء فورًا في إجراءات معالجة جملة الاختلالات التي أحدثها حزب الله في لبنان، سواء من حيث تبعات الحرب مع إسرائيل التي كانت بناء على قرار أحادي طائش تبناه حزب الله منفردًا، أو من حيث إعادة ترميم علاقة لبنان بمحيطه العربي والإقليمي والدولي بعد تجييره لخدمة الأجندة الإيرانية في المنطقة.
ويبقى القول إنه بانتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، يكون القرار السياسي والسيادي اللبناني قد كسر شوكة التدخل الإيراني في القرار اللبناني، بانتظار المزيد من التقليم الممنهج الذي يفضي إلى الحد نهائيًّا والاستغناء تمامًا عن خدمات مشروعها التدميري في المنطقة.